جاري تحميل محرك البحث

اهلاً وسهلاً بك في مجلس الخلاقي!
لكي تتمكن من المشاركه يجب بان تكون عضو معنا تسجيل الدخول بإستخدام الفيسبوك

تـسـجـيـل الـدخـول

|| للتسجيل معنا

التسامح

موضوع في 'المجلس الاسلامي' بواسطة فضل الخلاقي, مارس 7, 2008.

    فضل الخلاقي

    • ضيف
    تاريخ الإنضمام:



    الفصل السابع

    في وعي التسامح



    يبدو لنا أن التسامح كمفهوم لا زال محل جدل على الأقل لُغوياً بين العرب والغرب ولسنا في صدد هذا البحث، ولكن اعتقد أن المعنى الذي يقصد منه كلمة التسامح هو التحمل مع معاناة من أجل التعايش مع أمر لا يُحب في الحقيقة أو التوافق مع قضية لا أخلاقية لمجرد الرغبة في التسامح.

    لكن ذلك يعبر عن قصور حاد في استيعاب معنى التسامح، ذلك أن المعنى الأساس هو البحث عن أرضية مشتركة ويقينيات تبعث على الاطمئنان من أجل الوصول إلى الحقيقة التي تقف في ثنايا الكليات، فالسعي لتكوين أرضية مشتركة هدفها الأساسي الوصول إلى جوهر الحقيقة، وهذا يفتح الباب أمام إمكانية أن أكون على خطأ والآخر الذي لديه ما لا يعجبني على الإطلاق قد يكون ممتلكاً لحقيقة تخفى علي.

    وعلى الإجمال فإن الإنسان مرهون بالمغايرة وعدم التطابق فلا معنى للتسامح أصلاً إذا كانت الأمور كلها تستدعي التماثل سواء في الفكر أو العقيدة.

    والتسامح كمصطلح يختلف تماماً عن اللامبالاة أو كما تفسر أنها ترك الأمور تمر والتنازل لشخص كتعبير عن التهذيب باعتبار اشتقاق الكلمة من كلمة (سمح)، فمن غير المعقول أن أعيش دون معتقدات ولا أهتم بمعتقدات الآخرين ثم أدعي أنني أبدي تسامحاً إزاء أندادي في العقيدة، في الوقت نفسه فإن المؤمن الحقيقي لا يمكنه أن يجلس القرفصاء مسترخياً فيما يشاهد بأم عينيه الآخرين يذهبون إلى الجحيم، إنها المفارقة التي ترسم حدود التسامح كأيديولوجية وقيمة رائدة.

    إن التسامح لا يعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تنحي المرء عن معتقداته والتهاون بشأنها، إنما يعني أن يبقى المرء حراً في التمسك بمعتقداته وأن يتق بل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، والإقرار بأن البشر مختلفون ولهم الحق في العيش بسلام وهو يعني عدم فرض آراء الفرد على الغير.

    كما أنه لا يعني خفة الفكر وفضفاضيته أو جمود الحرية الفكرية والأدبية للعقل البشري أو الخوف من تكوين أفكار شخصية للإنسان أو الخوف من الحوار، كما أنه لا يعني ممارسة دور الحرباء بالتلون بفكر وآخر والقفز من عقيدة إلى عقيدة. إضافة إلى أنه لا يستند على المواطنة الجبانة والتي تتقبل أفكاراً متناقضة لتحاشي موجة الرأي المعاكس بالحجة والبراهين، فالتسامح إذن هو التعبير الأكثر كمالاً لحرية الإيمان والتفكير، إنه تأكيد لمشاعر الضمير والإحساس.

    من هنا فإن التسامح كقيمة تقف بين معياري اللامبالاة والإجبار أو القمع، لكن حدود التسامح تمتد بشكل ديناميكي لتشمل حتى دعاة المعيارين الآنفين فتلتحف اللامبالي والمتعصب وتشملهم برعايتها، نظراً لأن المبدأ الأخلاقي قادر على ممارسة دوره والتغلغل في الآخرين بخلاف المبدأ اللاأخلاقي الذي لا يحتمل خصمه.

    فالبخيل مثلاً يبدي ازدراءً لمن يبذل ويعطب بل يشعر وكأنه هو الخاسر، لكن المعطاء يبذل حتى للبخيل ويصب خيره عليه.

    والمتمترس بالحصون الديمقراطية لا يجد حرجاً من داعية للديكتاتورية يزمجر ويهدد بخروقاته، لكن المتمترس خلف الدبابات يصعب أن يشم رائحة غير رائحة البارود.

    إلا أن للتسامح تخوماً وحدوداً لا يجوز تخطيها وتجافيها ففي الوقت الذي يعطي التسامح حقاً لكل معبر عن الرأي وإن كان مبشراً بعدم التسامح، فإنه من غير المعقول أن يقف مكبل اليدين معصب العينين وهو يرى أن اللامتسامح يسعى لتدمير التسامح في المجتمع، وكما في المبدأ الإسلامي (لا حرية لمن لا يؤمن بالحرية)، فإنه لا تسامح لمن يدمر التسامح. إضافة إلى أن الإخلال بالتزامات التسامح الأخلاقية وأدبياتها هو أيضاً تدمير للتسامح مثل تجاوز الحقوق الفردية المشروعة للأفراد أو عدم صيانة مبادئ حقوق الإنسان وما أشبه.

    ويدور جدل في الغرب حول أقليات تقر بمبدأ العنف بل وتصل إلى حد القيام بأفعال عنيفة مستغلة ما تقدمه الأكثرية لها من تسامح وهل يجوز إسباغ التسامح عليها أم لا؟؟

    ويرى البعض أن هذه الأقليات من شأنها أن تلغي الديمقراطية وحرية القول والتسامح إذا ما قيض لها أن تنجح في الوصول إلى السلطة ولو ليوم واحد، بينما يرى آخرون أنه طالما ظلت هذه الأقليات اللامتسامحة تناقش وتنشر نظرياتها باعتبارها مقترحات عقلانية يتوجب علينا أن نتركها تفعل هذا بكل حرية بيد أن علينا أن نلفت انتباهها إلى واقع أن التسامح لا يمكنه أن يوجد إلا على أساس التبادل وأن واجبنا الذي يقضي منا التسامح مع أقلية ما ينتهي حين تبدأ الأقلية أعمال العنف(1).

    إن ظهور مفهوم التسامح برز في نهايات القرن السادس عشر الميلادي في الغرب بشكل ملحوظ أثر المرارة التي لاقاها من الحروب الدينية المتلاحقة في وسط أوربا، وطبيعة الحال فإن التسامح أخذ حيويته ومجاله في الغرب سواء في التشكيل الأيديولوجي والفكري أو التنظير القانوني، ولكنه ما زال هشاً كممارسة في وسط دول العالم الثالث وكأنه (طفل يتلعثم). ومرجع ذلك أن الثقافة العربية ظلت أسيرة لهاجس الخوف من وقوع الفرقة والفتنة والسعي بالمقابل لتأكيد وحدة الأمة والخشية من أن السماح بالاختلاف في الآراء والأفكار قد يضعف تماسك الأمة، لكن التسامح منظومة ثقافية حضارية هدرت فقرّت ويستحيل التنازل أو التخلي عنها.

    وما يزيدها حاجة ومكوثاً ارتباطها في جملة واجبات وحقوق تحف بالمرء من مثيل الملكية الخاصة والحرية الشخصية والنزعة الفردية وحماية حقوق الآخرين والتواصل الحضاري والتلاقح المعنوي بين كافة بني البشر تجعل من قيمة التسامح ذا ضرورة حتمية.

    ومكونات التسامح كمنظومة مفاهيمية هي ما يلي:

    1- الانحراف: فما يتم التسامح معه، منحرف عما يعتقده المتسامح أو يفعله أو يظن أنه يجب فعله.

    2- الأهمية: فصاحب الانحراف ليس تافهاً.

    3- عدم الموافقة: فالمتسامح لا يوافق أخلاقياً على الانحراف.

    4- السلطة: فالمتسامح يملك السلطة لكي يحاول كبح أو منع أو معارضة أو عرقلة ما يتسامح معه.

    5- عدم الرفض: فالمتسامح لا يمارس سلطته فهو يتيح للانحراف أن يستمر.

    6- الصلاح: فالمتسامِح (بكسر الميم) صائب والمتسامَح (بفتح الميم) جيد(2).

    ولو تفحصنا التشريعات الإسلامية لوجدنا أن القرآن الكريم حفل بجملة مناقبيات تدعو للتسامح وقبول الآخر والعمل المشترك والتلازم الحضاري لإصلاح الأوضاع والمجتمعات.


    التسامح العقيدي:

    ففي مجال الدعوة إلى الدين الإسلامي وهو أشرف مجال يخاطب الله رسوله المبلغ عنه قائلاً: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(3)، ويخاطب الله تعالى الناس الذين يتوجه إليهم رسوله بالدعوة بخطاب لا ضغط فيه ولا إكراه ولا تطرف فقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض)(4). ويقول أيضاً: (لا إكراه في الدين)(5)، (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(6).

    ثم يوجه القرآن الكريم الدعاة إلى أسلوب اللين والرفق فيقول تعالى:

    (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)(7).

    (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)(8).

    (فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمصيطر)(9). (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)(10).

    إن الإشارات البلاغية غاية في الوضوح معلنة عن أهمية أن يكون الداعية متسامحاً ليناً لا أن يصبح قاضياً تتلخص وظيفته في إصدار الأحكام على الآخرين بتسفيههم وتكفيرهم وترهيبهم أو إهدار دمهم.

    كما يخاطب أهل الكتاب من اليهود والنصارى بخطاب يدعوهم فيما يدعوهم إليه إلى التفاهم والاتفاق على عقيدة واحدة (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضناً بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)(11)، كما يدعو الله رسوله إلى عدم الاصطدام في النقاش مع أهل الكتاب فيقول: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون)(12).

    وإذا كان أهل الكتاب أو غيرهم من المشركين لا يلبي الدعوة بل يعرض عنها فلا ينبغي أن يستاء الرسول من ذلك فتلك إرادة الله (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(13)، (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها)(14)، (15).


    التسامح المعاملاتي

    أما في مجال المعاملات فالقرآن يوصى المسلمين بالتسامح والعفو يقول تعالى: (وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم)(16).

    وأيضاً: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)(17)، كما يوصي القرآن بدفع السيئة بالحسنة فيقول تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون)(18). ويقول: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(19)، (20).

    ويقول تعالى مخاطباً رسوله الكريم: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم * لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)(21).


    التسامح الأخلاقي

    وفي مجال الأخلاقيات يدعو الإسلام للتعافي والتصالح والعلاقة القائمة على الاحترام المتبادل والمحبة والوئام والثقة يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون * يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم * يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)(22).

    ويرفض الإسلام التطرف حتى في المشاعر أو معايير الحب والكره فيقول الإمام علي (عليه السلام): (هلك فيّ اثنان محب غال ومبغض قال).

    وبرغم النشأة الغربية لمفهوم التسامح نلحظ أن نهج التسامح نهج إسلامي أصيل وله جذوره القرآنية والتاريخية برغم أنه لم يكن تحت عناوين التسامح، يقول عالم الاجتماع البارز كلود ليفي سترواس في ككتابه مدارات حزينة (باريس 195): (إن الإسلام هو الذي ابتكر التسامح في الشرق الأوسط والحق بنا بدل أن نتحدث عن التسامح أن نقول أن هذا التسامح ضمن حدود وجوده هو بمثابة انتصار دائم للمسلمين على أنفسهم فقد وضعهم النبي - حينما أوصاهم به - في وضع حد للأزمة الدائمة التي قد تنجم عن التناقض بين الدعوة العالمية للتنزيل وبين التسليم بتعدد العقائد الدينية)(23).

    ولسنا في صدد إثبات أقدمية التسامح في الإسلام، إنما من أجل إبعاد الحساسية التي أبداها بعض مفكري عصر النهضة من غربة الفكرة واستيرادها.


    من أيهما تنبع الأصالة؟

    إذا كان التطرف خرقاً للعادة، فإن التسامح ملازم لكينونتنا البشرية وطبيعتنا الإنسانية التي خلقنا وجبلنا عليها.

    فالقابلية البشرية تؤكد أننا جميعاً قد نخطئ وعلينا أن لا نتكل على ما يبدو لأعيننا وكأنه كل الحقيقة والإيمان المطلق، من هنا كان علينا أن نكون مستعدين للاعتراف بأخطائنا واكتشافها وأن نطمح دائماً للوصول إلى أقرب نقطة من الحقيقة والصدق وما يقول فولتير: (إننا جميعاً من نتاج الضعف كلنا هشون ميالون للخطأ. لذا دعونا نسامح بعضنا البعض ونتسامح مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل وذلكم هو المبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة)(24).

    من هنا نحن مطالبون - من أجل تأصيل التسامح - إلى تجسيد ثمة معطيات رئيسية في التعامل والتكامل مع الآخرين:

    1- أن نصغي للآخرين أياً كانوا بدافع التعلم منهم لا احترامهم فحسب، خاصة خصومنا وأندادنا. ونعني بالإصغاء ملاحقة وملاحظة قيمهم وفكرهم وطرق تفكيرهم والأسس الفكرية التي انطلقوا منها في تدعيم رأيهم وفكرهم ومنطقهم. والإصغاء هو النظر بعمق لما يقوله دون اعتبار لشخصه أو مثالبه أو اعتباراته الشخصية وصدق الحديث الشريف إذ يقول: (خذ الحكمة ولو من الكلب العقور)، (خذ الحكمة من أفواه المجانين) أو كما جاء في الأثر: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قيل).

    إن تعلم فن الإصغاء إلى الآخرين يعني ببساطة أننا راغبون في الدنو نحو الحقيقة واكتشاف أفضل أسلوب للعمل، والحكمة الإنجليزية تقول: (قد أكون أنا على خطأ وقد تكون أنت على صواب ونحن عبر تفاهمنا حول الأمور بشكل عقلاني قد نصل إلى تصحيح بعض أخطائنا وربما نصل معاً إلى مكان أقرب إلى الحقيقة أو إلى العمل بطريقة صائبة).

    إن التسامح في مسيرة الفكر وحرية التعبير دون مصادرة أو قمع الآخر يوفر مناخاً مناسباً لتلاقح الأفكار وتطورها من خلال النقد البناء والحوار الهادف مما يخلق مزيداً من التطور والإبداع في الفكرة.

    يقول كارل بوبر: (إن تحقق تقدم حقيقي في ميدان العلوم يبدو مستحيلاً من دون تسامح، من دون إحساسنا الأكيد أن بإمكاننا أن نذيع أفكارنا علناً، من هنا فالتسامح والتفاني في سبيل الحقيقة هما اثنان من المبادئ الأخلاقية المهمة التي تؤسس للعلوم من جهة وتسير بها العلوم من جهة أخرى)(25).

    2- كما أننا مطالبون بتوفير الأجواء المناسبة للتسامح وأهمها جعل القيمة ذات مضمون حياتي في مختلف مشارب تعاملاتنا، وأولها تأصيلها في الأسرة الصغيرة وتشذيب سلوكياتنا بمزيد من التسامح. إن البيئة التي يعيش فيها الطفل يجب تهذيبها لمنع كل المثيرات التي تؤثر على حياة تحفز مسببات العنف، فنحن في الواقع مطالبون بتكريس التعايش في مناهجنا ومدارسنا والتركيز المستمر لنمو أبنائنا وأجيالنا على التسامح.

    (إننا في حاجة ماسة إلى مراجعة مناهجنا الدراسية وإلى استئصال الخطابات الإنشائية الوطنية الساذجة وألا نشجع نمو مشاعر العزل العنصري بين الأطفال من جنسيته وجنسية أخرى. كما أننا يجب أن نحثهم على تفهم الثقافات الأخرى وتذوق ما فيها من قيم جمالية وأخلاقية، فالتسامح في حقيقته تربية مستمرة، فمشاعر ضبط النفس وقبول الآخر والإدراك بأننا نعيش في عالم واحد تشترك فيه الأفكار المختلفة وتتعايش فيه الأعراق والجنسيات جنياً إلى جنب هو نوع من التسامي فوق المطامع والمصالح الضيفة. إن التسامح يقضي بأن نرى مصالحنا في إطار مصالح الآخرين)(26).

    إننا نلحظ للأسف علاقات أسرية قائمة على الاستبداد، حيث يندر قيام روح ديمقراطية متسامحة بين الأب والأبناء، إذ يمارس الأب دور المتسلط باعتباره الممول الرئيسي، فيما نجد علاقة الزوج بزوجته قائمة على التبعية لا الندية حيث تكون المرأة دائماً الجانب الأدنى، كما نلحظ بوضوح الاستبداد المعاصر الذي يتم في سلوكيات غريبة تجاه الطبقات المتدنية في مجتمعاتنا من مثيل الأقليات أو الفئات المهمشة والمعدمة.

    فيما تسيطر روح استبدادية في العلاقات بين الأفراد، ولعل في المثل السائد: (أكبر منك يوم أخبر منك بسنة) دليلاً واضحاً على هذه الروح إذ لا عبرة للموقع الثقافي أو العلمي الذي يحتله الإنسان الأصغر سناً.

    إن على عاتق الأسرة العربية أن تعلم أطفالها مناقشة الأمور العائلية كما يجب تعليم الأولاد داخل الأسرة أهمية الحوار وقبول الرأي الآخر مهما يكن مخالفاً له سواء كان دينياً أو اجتماعياً أو عرفياً، ولعل ما يؤسف له أن التعليم في مجتمعنا العربي لا يشجع على الحوار، فالمدرس نادراً ما يتحاور مع طلبته بل يريد منه تلقي المعلومات المقررة في المنهج كما لا يقبل منهم النقد، فيما الأب يريد من سلطته الأبوية أن تهيمن على كل صغيرة وكبيرة في الأسرة والحاكم لا يقبل بغير 99.99% من أصوات المقترعين فهل في ظل هذه الأجواء ينمو حس النقد!!

    لذا فإن تكريس التسامح لا بد أن يغلغل في كل مفردات حوارنا وجنبات حياتنا والعمل على قبول الآخر في مختلف أبعاد مسيرة نهضتنا.

    3- إننا مطالبون أيضاً بالكف عن ممارسة السلطة أو استخدام القوة في التدخل بآراء الآخرين وأعمالهم ونشاطهم وأساليب تحركهم وطرق تفكيرهم، نعم بإمكاننا التنبيه على المزالق التي يقعون بها أو كشف من يخل بالالتزامات الأخلاقية للتسامح أو يتجاوز قواعدها الأساسية بطريقة مشينة، ولكن لا يحق لنا أن نتدخل بآرائهم وأعمالهم وإن كنا لا نوافق عليها عقيدياً أو فكرياً أو أخلاقياً.

    وهنا ينبري جدل واسع حول مفهوم الهيبة والمكنة والقدسية التي تحضى بها معتقداتنا وأفكارنا، فالكثير من الإسلاميين يرون في احترام التشريعات الإسلامية ووجوب تطبيقها ينطلق من باعث ديني وعقيدي يفرض على الآخرين تنفيذه ولو بواسطة القانون، وفي هذا السبيل يسبغون على مجمل الأوامر والنواهي الشرعية وكذلك المعتقدات والطقوس هالة القدسية وعدم جواز خدشها.

    ولعل أبرز ملامح هذا الجدل ما يحدث في بعض الدول الإسلامية من دعوات لتطبيق الشريعة الإسلامية بطريقة قانونية محضة أو العمل على إصدار قوانين لمنع الممارسات الشاذة في المجتمع دون اعتبار لما يمثله ذلك من ممارسة لحدود السلطة وحدود التسامح والحقوق الإنسانية ودون اعتبار لما يمكن أن تحدثه مثل هذه القوانين من خرق في المبادئ الإسلامية وتشريعاتها قد يتسع، وحينها لا يمكن فتقه.

    إن التسامح لا بد أن يعلمنا لجم سلطتنا وكبح جماح القوة، من أجل إقناع الآخرين بالمنطق للوصول للحقيقة دون الحاجة إلى سيف ونطع وعصى وهراوات!! ولعل أروع شاهد على ما نقول عندما دخل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مكة فاتحاً دفع علياً ليحمل الراية ويصرخ (اليوم يوم المرحمة اليوم تصان الحرمة) حينما كان يحملها صحابياً آخر ويصرخ: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة. كما عفا (صلى الله عليه وآله) عن كل المجرمين وقادة الحرب في قريش ولم يعاقب على جريرة خلال سنوات الدعوى إطلاقاً حتى أضحى محمداً (صلى الله عليه وآله) تهواه القلوب وتعشقه الأفئدة ولو على مشارف القسطنطينية...

    أما قال قولته الشهيرة (اذهبوا فأنتم الطلقاء) لكل من ناصبه العداء حتى عفا عن وحشي قاتل عمه الحمزة، وهبار قاتل ابنته زينب (عليه السلام). كما جعل الراية لأبي سفيان وأرسله مع كتيبة إلى غزوة حنين وأعطى له تلك العطية الجزيلة ليبرهن على روح التسامح وتأثيرها في الواقع السياسي.

    4- وفوق كل ذلك فنحن مطالبون بتكريس التسامح في الحياة السياسية ففي ظل التعدد في التركيبة التنظيمية والحركية والفئوية في مجتمعاتنا، فإنه لا بد من تقبل قيام أي أقلية أو طائفة أو تنظيم سياسي أو ديني تشكيل حزب سياسي يمثله والقيام بالترويج لأفكاره وإن كان مناهضاً لأطروحاتنا، فليس لنا الحق بادعاء امتلاك الحقيقة السياسية ومصادرة رأي الآخرين. كما أن التسامح في الحياة السياسية يتطلب ممارستنا للعمل السياسي بشيء من النقاء والتشذيب والابتعاد عن المهاترات والدس والمكر والخداع، إذ أن هذه الممارسات تكون مدفوعة بدافع الانتقام أو إسقاط العدو المخالف لأفكاري وعقيدتي.

    والمهم أيضاً أن نكرس أدبيات التسامح السياسي في صفوف المناصرين والجماهير حتى نصل لمرحلة قبول انضمام أعضاء من أبناء الأقليات الأخرى للحزب الإسلامي دون أي شعور بالحرج.

    إضافة إلى ذلك فإنه من الضرورة بمكان تكريس المشاركة السياسية للأقليات وتطبيق مبدأ (لهم ما لنا وعليه ما علينا) وتجذير مبادئ حقوق الإنسان والمساواة وحفظ كرامة الإنسان ضمن نطاق الدولة المدنية الحديثة، وهذا سيفتح المجال على مصراعيه لتحقيق ما يمكن أن نطلق عليه (بالشراكة الحضارية) المتمثلة في السعي المشترك بين كافة الديانات والطوائف لبناء حضارة الغد وتحقيق ازدهاره.

    يذكر التاريخ أن الأشعث بن قيس الكندي بنى في داره مئذنة فكان يرقى إليها إذا سمع الأذان في أوقات الصلاة في مسجد جامع الكوفة - وكان الولي آنذاك علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو المؤذن - فيصيح الأشعث من أعلى مئذنته: يا رجل إنك كاذب ساحر!! ولم يأذن الإمام لأحد أن يتعرض له بسوء(27).


    معطيات التسامح

    التساؤل الهام والذي يفترض أن نقتفي أثره لتعزيز هذه الخصيصة الحضارية في محيطنا الاجتماعي هو ماذا سنجني من التسامح وماذا سيمنحنا من مكتسبات ترتقي بنا إلى مصاف التحضر؟؟


    1- تعزيز الحرية:

    إن التسامح يفتح آفاقاً جديدة في فهم حقوق الآخرين وواجباتهم تجاه غيرهم وعدم فرض قيود على الآخرين ما يتيح تحول الأفراد والمجموعات لمزيد من التمدن ويؤصل من قيمة الحرية.

    إن لجم شقشقات السلطة والقوة لدى الفرد والتفكير بطريقة متعايشة محبة للآخرين يدعو لمزيد من تشذيب سلوكياتنا وتقنينها - أخلاقياً - نحو الحقوق والواجبات التي تؤطر حياتنا. فالسلطة المتسامحة حينما تترك للشعب أن يكون مسؤولاً لما سيختاره لنفسه، فإنها في واقع الأمر ستساهم في دفع الأفراد للحد من سلطتهم تجاه غيرهم وسنجد أنفسنا في أحضان دولة مدنية يحكمها القانون ويسودها التبادل القيمي النفعي وتتكرس العدالة بشكل أوتوماتيكي. يقول بيتر نيكولسون أحد مفكري الغرب: (إن فرض المرء قيوداً على نفسه جزء ضروري من كونه متسامحاً وهو بالتالي عنصر مكون لحريته).

    بل إن التسامح سيساهم بجدية في تكريس الأطر الديمقراطية، ذلك أن جزءاً كبيراً من مفهوم الديمقراطية يرتبط بالمشاعر الشخصية فاحترام الأغلبية لرأي الأقلية يتطلب روحية معنوية خاصة تتقبل احترام الأقلية وترتضي عن طيب خاطر ممارسة الأقلية حقوقها المشروعة وشعائرها. والركون لرأي الأغلبية بحاجة ماسة إلى علو النفس للإذعان لمن لا يتفق معها. وفي كلتا الحالتين فإن التسامح يؤصل منهجية العمل بأدبيات الديمقراطية ويدفعها للتقنين والأطر القانونية.


    2- تكريس المفهوم التكاملي للعدل:

    إن المتسامح لا يحق له أن يسحب تسامحه أو يتراجع عنه، وكل شخص لديه الحق في التسامح المساوي لحقوق الآخرين، فلا نستطيع أن نقول أن التسامح يقتصر على آرائنا وأعمالنا وسلوكياتنا ولا يحق لآراء وأعمال الآخرين التمتع به.

    إن ذلك سيكرس مفهوماً تكاملياً جديداً للعدالة في المجتمع ويضيف أبعاداً أكثر قيمية لتناصف وتوزع الحقوق على الجميع.


    3- صناعة الوعي:

    يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (الرفق رأس الحكمة).

    لا شك أن التسامح يدعو لفهم الأفكار واستيعابها ويعمل على استحواذ انتباهنا لخلفيات كافة الأفكار المحيطة بنا وخاصة أفكار الآخرين المنافسين أو الأنداد، وإن كانت وجهة نظرنا تبدو غريبة وكريهة وغير منطقية. ففي الوقت الذي تطالب وبإلحاح الاهتمام الجدي بما تقوله وتطرحه من أفكار ومعتقدات فأنت مطالب أيضاً بالاستماع والانتباه لما يقوله الآخرون.

    (فالتسامح يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، إنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجباً أخلاقياً فحسب وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضاً وهو الفضيلة التي تسهل قيام السلام ويسهم في إحلال ثقافة السلام عن ثقافة الحرب)(28).

    إن التبادل الأخلاقي مع الآخرين وفكرهم ينطوي على صناعة وتأصيل الوعي المتزايد ويشكل خلفية ثقافية ناهضة تقبل على قراءة وتفحص ما يتبناه الآخر المختلف كما يتفحص الآخرون فكرنا، مما يثري الساحة ويحدث موجة من التلاقح الفكري والحيوية الثقافية في السامة. إن ثقافة التسامح تفتح أبواب المعرفة على مصراعيها بينما ثقافة الموت لا تفهم غير منطق القوة!!

    والتسامح كذلك يؤسس قاعدة تغيير أفكار الآخرين على أسس عقلانية وهو بحد ذاته جهد ثقافي وفكري جبار مما يلزم إحداث تجديد فكري وثقافي في الأمة يتناسب وعقلانيته قادر على مجاراة النهوض الفكري المنتشر.

    إن الساحة العالمية تنبئ عن مساعي مكشوفة لمخططات غربية وصهيونية مشبوهة لتفتيت المنطقة وإثارة النزاعات وتفكيك الأمة العربية والإسلامية وإلحاقها بركب الغرب وتفجير القنابل المتولدة من التعدد الطائفي والعرقي والديني، ومن غير تكريس التسامح فإنه من الصعب العمل على صهر الأقليات وضبط سلوكياتهم واستيعاب ما يدور في الخفاء من مؤامرات. ولا شك أن المسلمين بالتسامح قادرون على اختراق المخططات وكشف مساوئها والعمل على إزالة الذرائع التي يسوقها البعض من الغرق في أتون المكائد الغربية والصهيونية.

    ولا بد بالتسامح العمل على صياغة ديناميات لازمة وآليات عمل مناسبة لصهر الجميع في بوتقة المجتمع والدولة وعدم إتاحة الفرصة لتغلغل مشاعر الفراق والشتات والضياع.


    4- نقد الذات:

    يفعل التسامح فعل السحر في ممارسة النقد الذاتي، إذ أنه يلح على رواده توجيه التفكير نحو الحقيقة والوصول إلى جوهر الفكرة وأصالتها، لا التفكير بنزعات النفس والهوى الملازم للفكرة، ولنا أن نتصور كيف يمكن أن يحافظ المتسامحون على الروح النقدية من كافة المعضلات والمشاكل والأحداث التي تحيق بهم إذا امتلكوا روحاً شفافة تبحث عن الحقيقة وتؤثر من ذاتها لأجل نصرة الحق.

    كما أنه يشجع المرء على تفحص أفكاره وآرائه ومنطلقاتها الجذرية وتحليل الوسائل المعرفية وإعادة النظر في مضامين الأفكار والمفاهيم دون الاستغراق في نظرة أحادية أو تعليق القصور على مشجب الآخرين، الأمر الذي يفضي إلى إحداث بعض التطور أو تنقيح وتعديل أو رفض بعضها أو كلها إن لم نقل يفضي إلى تعزيزها.

    إن ممارسة نقد الذات والأفكار والأطروحات يشكل قاعدة جوهرية في إدراك رفيع لتلك الأفكار والمضامين بعيداً عن التشنج والتعالي. ولو أمعن رواد الحركة الإسلامية في التسامح وابتعدوا عن عقلية الاحتكار والتفرد والوصاية على عقول وتفكير الآخرين لوجدوا أنفسهم في حضن النهضة الثقافية حيث تزدهر تطلعاتهم وتنهض لديهم أفكار مبدعة، لكن النظرة الفوقية دائماً لا تتيح التمتع بمميزات وآراء ذلك الأدنى خاصة إذا اصطبغت أفكار وآراء ذلك الأدنى بلون الكفر وانطبعت بماركة التنجيس!!

    ولسنا نبالغ إذا قلنا إن الغرب نما على أثر حضارة إسلامية كانت تكبو وتنهض من روح التسامح الذي تلبس به دون حرج من منجزات هذا الخصم - الإسلام - ولو مارس المسلمون دوراً نقدياً لأفكارهم مستعينين بما تؤهله منجزات الغرب وتطلعاه لكانوا في مصاف الرقي.

    إن إعمال العقل وتشريح مواطن الخلل والضعف والتطهير الأخلاقي لنوازع التعصب والتسلط والاستبداد تشكل مرجعة يقظة ومستمرة متطورة للبنى الفكرية والحركية في المفاهيم والنهج والممارسات(29).


    5- عقلانية المنهج:

    المتسامح بطبيعة الحال أقرب للحوار بما يؤهله مبدأ التسامح من قدرة على التقارب مع الأطراف الأخرى. ولا شك أن الحوار يعتبر أسلك الطرق لتكريس العقلانية إذ أن الأجواء المحيطة بالتسامح تسمح بالتفاهم حول الأمور أياً كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية بشك عقلاني علمي لأن الفكرة هي مقياس الحوار، وبالتالي ستنهض للسطح جملة المبادئ العقلانية الأقرب للحقيقة والإقناع وأن السجال النقدي سيصب في خدمة الحقيقة دوماً خاصة وأن المتسامحين يقرون بمبدأ (قد أكون على خطأ وقد تكون على صواب وإن لم نتفق فإن الأصلح يبقى ولو بعد حين).

    يقول الإمام علي (عليه السلام): (رأس العلم الرفق وآفته الخرق).

    إن تنقية أفكارنا وإخضاعها للمنهج العقلاني سيدر منفعة كبيرة لنهوضنا الحضاري والعلميِ، حيث الحقائق ستجلو واضحة وسنكون مؤهلين لممارسة دور نهضوي بالغ الأهمية في زمننا القادم الجديد ويكفينا فخراً أن نؤكد أن التسامح سيجعل الكلام بدل الحسام واللسان بدل السنان التخاطب بديلاً للخصام.

    وعلى النقيض من ذلك فإن التطرف والعنف والتزمت مظاهر نبذ العقلانية في المشروع الإصلاحي، إذ أن دعاة العنف يمتلكون نظرة إلى الواقع شديدة الانحياز والانحراف في انتقائيتها، فهم لا ينتبهون كثيراً إلى الواقع والحقائق والدليل على ذلك أنهم لا يقدرون حجم المعاناة التي يتسببون بها في عملهم الإرهابي، ولا شك فإن المتزمت يترك العنان لأهوائه الخاصة إلى درجة يكون غير قادر على ممارسة أي تفكير منطقي، فهو مجرد آلة طيعة تحت تخدير التعصب يعميه عن رؤية غير الأشياء التي يؤمن بها حتى يصل لمرحلة التضحية بنفسه لتبرير عمله!!

    يقول الإمام علي (عليه السلام): (ليكن شكيمتك الرفق فمن كثر خرقه قل عقله).

    ويقول أيضاً: (لسان الجهل الخرق).


    من أجل مجتمع مدني

    كي نطوي صفحة العنف والتطرف في مجتمعاتنا الأهلية، لا بد أن ننتقل إلى عصر المدنية ونزيح العسكرتارية والمركزية في شؤون مجتمعاتنا الإدارية والبنوية.

    الأمر ليس بخارق للعادة أو صعب مستعصب لا يرقى لها إلا ذو حظ عظيم، إنها خطوة تتم ضمن تدرج اجتماعي وسياسي مبرمج من خلال إحداث تحولات مرحلية وبناء ذهنية فكرية مجتمعية وتهيئة الظروف اللازمة لنشأة المدنية.

    والمجتمع المدني المقصود فيه هو مجموع التشكيلات والكتل والمؤسسات المهنية والاجتماعية والسياسية المنظمة والمستقلة بفئاتها ونظمها وطبقاتها الاجتماعية تنطلق نحو تحقيق أهداف وآراء أعضائها ونقلها إلى الشارع السياسي والاجتماعي والتأثير على سلطة اتخاذ القرار في المجتمع. كما أن حزمة النظم والقوانين المؤسسة لبنيان أطر مدنية تؤصل العمل المؤسسي وتبني ركيزة الدولة المنفصلة عن الأفراد كأشخاص.

    إن المجتمع المدني ما هو إلا صيغة عقلانية يتحرك في إطار قيمي وأخلاقي لتأسيس نظام الوسيط بين الفرد والدولة ينهض بهمة تنظيمية داخل أطر المجتمع، يحدث التغيير فيها ويشكل صيغ جديدة على أعتاب صيغ بالية.

    هل من الممكن أن تنزح مجتمعاتنا نحو المدنية بهذه السهولة المفرطة؟ نعم ولكن نحن بحاجة إلى ثمة مرتكزات تبني جذور المدنية:

    1- إن الإنسانية لا يمكن أن تحدث تغييراً من دون الولوج إلى مسار التاريخ وقبول تحولاته وهضم القدر المعرفي المتراكم والمستجد. والمدنية هي مجرد مرحلة مسبوقة بقمة تطورات متلاحقة من نشأة المؤسسات وتطوير آلية نموها وإحداث تغيرات في ذهنية المجتمع ليتحول من متبوع يترك آلياً ضمن نسق نظم أبوية تحيط به وتصبغ المجتمع في لون معرفي واحد، إلى مجتمع مستقل ناهض التفكير مبدع يتحرك ضمن حدود حريته والحقوق الممنوحة له لينتقل إلى مقعد قيادة وتوجيه المجتمع مع والعلم على تنويع التخصص (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

    فالمدنية ما هي إلا لون من ألوان دفاع المجتمع عن نفسه.

    2- تطور النظام الاجتماعي العام - كون الدولة فيه إحدى طبقاته - بحيث يتناسق والوظائف المدنية الجديدة مثل الحالة الثقافي وطبيعة النظام السياسي وأيديولوجيته والفئات الحاكمة في المجتمع والآليات الاقتصادية الميسرة وتحديث طرق تنظيم النظام التربوي والاجتماعي والسياسي والتعليمي ليتناسق مع هذا التطور.

    3- نهوض الثقافة المدنية القائمة على فلسفة تأصيل طرائق التعددية وبناء مفهوم جديد للمواطنة يقوم على احترام الحريات والحقوق الممنوحة للفرد والتداول السلمي للسلطة ورفض كافة أشكال الاستبداد والدكتاتورية في كافة مناحي الحياة وهذا يتطلب سعياً حثيثاً نحو تغيير كل مؤسسات الدولة وطرقها.

    4- الشخصية المستقلة للمجتمع - من خلال مؤسساته وهيئاته وتشكيلاته المتعددة - في مقابل الدولة، ومنع تمدد الدولة خارج دائرة الدستور والحيات القانونية. فالمدنية مواجهة حاسمة لتمركز السلطة وتقليص سلطتها وعدم تهميش دور الأمة في مقابل سلطانية الحاكم وموروثات التاريخ الغابر التي قدسته واعتبرته خليفة راشد وأمير لمؤمنين!!

    5- القبول بالأواصر المادية في التحول إلى مجتمع المدينة، حيث أن الآصرة المادية ونتائجها النفعية والمصلحية تفرض نظاماً كاملاً للحياة تتأسس فيه علاقات إنتاج تتجاوز النمط البدائي إلى ما هو مؤهل لتكوين مجتمع مركب تتقابل فيه المنافع والحاجات، والواجبات والحقوق، وهو أمر يحفز الدافع الفردي في الأداء، ويخلق مقاسات للتفوق تتناسب مع الكفاءة، ونوع الخدمة العامة ودرجتها فينصف الذكاء والجهد بدلاً من أن يجري المنح المجاني للمراتب على أساس النسب والنقاء القبلي المزعوم أو الولاءات العائلية.


    المدنية إحياء لثقافة السلام

    حينما تتحرك الثقافة في حصون الناس وعقولهم تحدث تغييراً ملموساً على أرض الواقع، وبناء الفكر المدني ما هو إلا إحياء لثقافة السلام واللاعنف من خلالا التزام الإنسانية والمجتمعات والأفراد بمجمل القيم والتقاليد والعادات والتصرفات التي تسند إلى احترام الحياة والشخص البشري وحقوقه ونبذ العنف وتحقيق المساواة بين كافة أبناء البشر، واحترام حقوق الإنسان والعدل والتضامن والتسامح والتصدي للتمييز بسب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين، وقبول الاختلاف وتحقيق التفاهم بين الأمم والدول والمجموعات العرقية والدينية والثقافية.

    ولما كانت الحروب الماضية والأزمات الدولية المعاصرة ناتجة عن اعتبارات عرقية وأيديولوجية ومن ميادين التطرف الديني والعنصرية وعدم التسامح، فإن إعادة قراءة التاريخ بنظرة انتقادية مهمة عاجلة من أجل إزالة كل مخلفات ثقافة الحرب.

    وكلما انغرزت المدنية في حصون الأمم، تطلب اندساس ثقافة السلم في أدمغة البشر، سلم الحرية والسعادة والمساواة، يحظى فيه الجميع التقدير ويتقاسمون رغد الحياة، لا سلم الصمت والنكوص.

    وثقافة السلم تقوم على حقيقة (أن الآخر هو أنا) وأن السبيل الوحيد لمعالجة مشكلات التهميش واللامبالاة والكراهية والعدالة في المجتمع هو معرفتنا بالآخرين واحترامهم ووقف الانتهاك واستخدام العنف.

    هل الفرد مجبر على أن يكون جزءاً محركاً وفاعلاً في المجتمع المدني؟؟

    في الواقع الطواعية أمر هام في الانتماء لمؤسسات المجتمع المدني وإلا فإن الإجبار عودة لمخلفات الفكر الاستبدادي والمؤسسات الإرثية، ورجوع لطريقة السلطة الأبوية والهيمنة الفوقية التي قد تقمع آماله وتطلعاته. والحل الأمثل أن تتاح له كامل الحرية لممارسة حقه في التعبير والانتماء وهو كفيل بجعل مشاركته أكثر فاعلية وإيجابية.

    إن المجتمع المدني أطروحة إصلاح شامل على مستوى السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة، وإعادة تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، الديمقراطية والفرد الواحد، المشروعية والنظم القائمة، والعمل على إحداث تغيير في أصول البنية الاجتماعية لنستطيع بناء مجتمع متحضر ناهض يحقق السعادة والازدهار للفرد والمجتمع.



    1- (بوبر، كارل – التسامح بين شرق وغرب – دار الساقي بيروت 1992).

    2- (بالدوين، توماس – التسامح بين شرق وغرب – دار الساقي 1992).

    3- سورة النحل، الآية: 125.

    4- سورة النساء، الآية: 170.

    5- سورة الكهف، الآية: 29.

    6- سورة طه، الآية: 44.

    7- سورة آل عمران، الآية: 159.

    8- سورة الغاشية، الآيتان: 21-22.

    9- سورة طه، الآية: 132.

    10- سورة آل عمران، الآية: 64.

    11- سورة البقرة، الآية: 256.

    12- سورة يونس، الآية: 99.

    13- سورة العنكبوت، الآية: 46.

    14- سورة البقرة، الآية: 256.

    15- (الجابري، محمد عابد صحيفة الشرق الأوسط العدد 5221).

    16- سورة البقرة، الآية: 237.

    17- سورة النحل، الآية: 126.

    18- سورة القصص، الآية: 54.

    19- سورة فصلت، الآية: 34.

    20- (الجابري، محمد عابد صحيفة الشرق الأوسط العدد 5221).

    21- سورة الممتحنة، الآيتان: 7-8.

    22- سورة الحجرات، الآيات: 10-13.

    23- (سالمان، عبد الملك - مجلة الكلمة العدد 3).

    24- (بوير. كارل، التسامح بين شرق وغرب - دار الساقي بيروت 1992).

    25- (المصدر السابق).

    26- (الرميحي، د. محمد: مجلة العربي الكويتية العدد 442 سبتمبر 1995).

    27- (الشيرازي، الإمام محمد مهدي: الحكومة الإسلامية في عهد الإمام أمير المؤمنين دار الفكر الإسلامي 1993).

    28- مايور، فيدركو مدير عام اليونسكو، صحيفة الاتحاد الإماراتية 4/11/1997).

    29- (الزميع د. علي: رؤية في الآفاق المستقبلية لتجديد الفكر الإسلامي - ندوة الفكر الإسلامي المعاصر بين البناء والهدم يناير 1995).



    واليكم هذا الرابط
    http://www.14masom.com/maktaba_fkreia/book01/7.htm


انشر هذه الصفحة